تاريخ المغرب بين ما هو عليه و ما ينبغي أن يكون عليه - أزايكو

بقلم: علي صدقي أزيكو
  • تاريخنا غير مكتوب 
  • كيف يبغي أ يكتب تاريخنا ؟
  •  مسؤولية المؤرخين المغاربة الشبان
منذ القرن التاسع عشر أصبح التاريخ يتجه اتجاها جديدا، وأصبحت قيمته تتجاوز مجرد كون رواية أحداث وحكاية وقائع مجردة، الى اعتباره وسيلة لفهم الحاضر وتوجيهه، اعتمادا على فهم وادراك واعيين للماضي، وكلما اتسعت أفاق المعرفة كلما ثقل وزن قيمة التاريخ ووضح دوره الظاهر والخفي في توجيه التقدم الفكري والمجتمعي للمجموعات البشرية، وهذا أكسبه مكانة لم تكن له من قبل وخاصة في المجتمعات المتقدمة التي ارتبط فيها الوعي التاريخي بالتقدم الاجتماعي. فعصرنا هذا يمكن أن نطلق عليه عصر التاريخ الواعي، وبذلك يتميز عن العصور السابقة التي كان فيها التاريخ حركة متطورة في الماضي لم يستفد الانسان من وثاقة صلتها بالحاضر. غير ان درجة انتشار الوعي التاريخي – حتى في عصرنا الحالي – ليست متساوية. فهي في بداية ظهورها في المجتمعات التي تنتمي للعالم الثالث، وهذا من الأسباب التي أودت بعهد الاستعمار، هذا الاستعمار الذي يمكن اعتباره من العوامل الموقظة لهذا الوعي التاريخي لأنه وضع علامة استفهام كبرى عند احتكاكه بالمجتمعات التي استعمرها؛ ووضعت مسألة الاختلاف الكبير بين المستعمِر (بكسر الميم) والمستعمَر (بفتح الميم) موضوع نقاش ظهرت نتائجه التي تتلخص في الإعجاب بالمستعمر وتقليده. إلا ان هذا الاعجاب لم يكن مطلقا بل هومرحلة فقط للوصول الى النتيجة العميقة للنقاش وهي ادراك الشعوب المستعمرة لشخصيتها واختلافها العميق عن الشخصية الأوربية. ثم دفعها ادراكها لقيمة شخصيتها المتميزة الى المقاومة والمطالبة بالاستقلال أي المطالبة بحريتها في توجيه شؤونها الوجهة التي تراها صالحة في ظروف كظروفها وفي اطار تاريخي كالذي خلقها.
هناك سبب اخر لا ينبغي اهماله هوانتشار المدارس وازدياد أهمية التعليم يوما عن يوم. وليس اثر التعليم مقتصرا على كوه يمكن التلاميذ من تلقي دروس تاريخية من بين الدروس التي يتلقونها بل ان يمكنهم من الوسيلة التي تجعل افهم يتسع ومفاهيمهم تتأثر بالتيارات الفكرية العالمية عن طريق القراءة أوالاستماع أوالمشاهدة.
علي صدقي أزايكو
إزاء هذه الحالة نجد انفسا مسؤولين أكثر من أي وقت مضى على توجيه أفكار شبابنا الوجهة الصحيحة سواء على المستوى القومي اوالإنساني خصوصا اذا علمنا ان الكثير من الأفكار المتسربة الى بلادنا والتي نمت في مجتمعات تخالف مجتمعنا، لا يهضمها شبابنا هضما صحيحا بل يتلقاها بشكل اوباخر ويفهمها بطريقة اوبأخرى دون ان يكون مستعدا – لا نفسيا ولا حضاريا – لفهمها على الأقل كما أرادها أصحابها ان تفهم بل ان يفهمها كما ينبغي ان تفهم، انطلاقا من فهم كامل لمعطياتنا الاجتماعية والتاريخية.
وهكذا أصبح الاضطراب والبلبلة من الظواهر الملحوظة بين صفوف شبابنا.
الا ان مهمة التوجيه هذه تتطلب من الموجه نفسه ان يدرك الادراك كله جميع ابعاد مهمته، وان يحدد بوضوح موقعه في الزمان والمكان ويتعرف على الاطار المجتمعي الذي سيكون ميدان عمله. ومعنى انا في حاجة الى من يدرك وضعيتنا ويفهم حاضرنا فهما عميقا حتى يكون انطلاقه مبنيا على أسس سليمة. وفهمنا لحاضرنا لا يتأتى الا بعد فهم لماضينا الذي لا يمك بأية حال فصله عن هذا الحاضر. فالتاريخ جزء من الحاضر، والحوار أبدا لا ينتهي بين الماضي والحاضر " لا نستطيع أن نفهم جيدا قضية ما الا اذ تتبعنا تاريخها" أوكوست كانط.
فالتركيب الاجتماعي الحالي ليس الا نتيجة لمجموعة معقدة من العمليات التاريخية التي صنعها الانسان نفسه دون ان يحيط علما بجميع النتائج المحتملة لعمله ذاك. وفي هذا الصدد يقوم ماركس " ان التاريخ لا يصنع شيئا، فليس لديه ثروة طائلة. وهولا يحارب أي معارك، فالواقع ان الذي فعل طل شيء هوالانسان الذي يحيى حقا والذي يملك والذي يحارب".
فالدراسات التاريخية اذن هي الوسيلة التي ينبغي الالتجاء اليها لتحقيق هذا الغرض، ان تاريخنا كله امجاد، وأمجادنا جزء من امجاد الإنسانية، وتاريخنا قطعة من تاريخ البشرية. فلن أكومؤاخذا اذن اذا قلت: ان عنايتنا يجب ان تنصب قبل كل شيء على دراسة تاريخنا القومي. فنكون بذلك قد دينا واجبنا تجاه وطننا أولا وتجاه الإنسانية ثانيا. بل انه لا يمكن بحال ان نتهم بالاقليمية مغربيا اهتم بتاريخ منطقة بعينها دون غيرها. لأنه بعمله ذاك يضع لبنة قد يضع الاخر أخرى لبناء شامل لتاريخنا الوطني.
ان مشكلتنا الأولى هي إعادة كتابة تاريخنا، لا الطريقة التي كتب بها غير سليمة، ولان الظروف التي أحاطت بكاتبته ظروف خاصة حتمت كتابته بالشكل الذي هوعليه الان ثم لأنه أتانا من الخارج أي ان تاريخنا الذي نقرأه وندرسه ونتأثر به كتب بأيد أجنبية وبعقلية ليست كعقليتنا ولأهداف تخالف بل تناقض ما يراودنا من أمال وأهداف. ان تاريخنا لم يكتب بعد؛ واذا قلت تاريخنا فأعني تاريخنا الطموح الباني الآمل، الذي يعبر عن فلسفتنا ويضم أيضا أمالنا، ويتخذ من الماضي أساسا لبناء الحاضر والمستقبل، تاريخنا الذي ينبعث منا لا ليتجاوزنا ويمسخنا بل ليجيزنا ويبلور شخصيتنا. ان تاريخنا فسره لنا الأجانب فاصبحنا بذلك نرى انفسنا بعيون غيرنا ونحاول ان نحقق فينا ما أوحي الينا وقد أملى هذا الغير حسب وجهة نظره هووطبقا لمشاربه.
قد يقول قائل: انك بكلامك هذا تنفي عن التاريخ موضوعيته !  وتريد منه ان يكون أدبا حماسيا يغني الأمجاد،ويرفض أصداء الماضي ..
أما عن الموضوعية التاريخية، فلست في حاجة التي التذكير بأن التاريخ علم انساني، والعلوم الإنسانية ليست بحال كالعلوم الطبيعية: الفيزياء مثلا. "لان التاريخ هوالعلم بالأشياء التي لا تتكرر أبدا. فالأشياء التي يمكن تكرارها، والتجارب التي يمكن اعادتها والملاحظات التي يعلوبعضها على بعض كل أولئك من شأن علم الفيزياء، والى حد ما علم الاحياء". بول فاليري خطبة في التاريخ (1932). "وهوتطور أحداث وحركة متكورة متقدمة منطلقة" كما قال أدوارد كار. ولوكانت هناك سنن ثابتة معروفة تتحكم في سير التاريخ لا نحل المشكل ولما قيل في هذا الموضوع كل ما قيل، ولما اختلف اثنان في تفسير حادثة تاريخية.
ثم ان التاريخ جزء من المؤرخ لا يمكن فصلهما، وهو"عملية مستمرة من التفاعل المتبادل بين المؤرخ ووقائعه" ادوارد كار – ما هوالتاريخ.
وبما ان المؤرخ له وجهة نظره الخاصة وظروف اجتماعية وسياسية معينة، ومستوى ثقافي محدد وأهداف تفرضها عليه وضعيته التي تتأثر بكل ما ذكر، فإن ما يكتبه يكون مطبوعا بشخصيته وسيعبر عن وجه نظره، وسيفسر الاحداث انطلاقا من معطيات شخصية ذاتية م صنع بيئته ووزنه كمؤرخ ... قبل أن ينطلق من المعطيات التاريخية المجردة.
واذا كان التاريخ " سجلا لما رآه عصر يستحق الذكر في عصر آخر" كما قال بور كار. فإنه بالتالي اختيار ارادي لأحداث يراها المؤرخ أهم من غيرها. وهذا الاختيار – طبعا – يتأثر بشخصية المؤرخ ومشاربه وأهدافه. وبما ان اختلاف المؤرخين في شخصياتهم شيء واقع فإن التاريخ سيكون متعددا بتعدد المؤرخين. وهكذا نصل الى أن التاريخ وجهة نظر، وطريقة معينة في تفسير الاحداث، ومنهج خاص في طريقة العمل والنفوذ الى أعماق الوقائع التاريخية.
"ان اية شخصية اوحادثة اوأي مظهر من مظاهر الماضي الإنساني لا يكون تاريخيا الا اذا اعتبره المؤرخ كذلك واعتقده خليقا بالحفظ والبقاء" H. I. Marrou التاريخ ومناهجه.
فالموضوعية التاريخية شيء نسبي، ومحاولة البحث عنها مرتبطة بالدوافع التي أدت بالمؤرخ الى الكتابة التاريخية، الا ان الشيء المحقق هوانها لا تكون مطلقة مهما حاول المؤرخ ان يتجرد عن المؤثرات الذاتية عند محاولته الكتابة في موضوع تاريخي معين. فــ "قبل ان تدرس التاريخ عليك بدراسة المؤرخ وقبل ان تدرس المؤرخ عليك بدراسة بيئته التاريخية والاجتماعية، فالمؤرخ بوصفها فردا هومن نتاج التاريخ والمجتمع وعلى دارس التاريخ ان يتعلم النظر اليه على هدى هذا الضوء المزدوج" ادوارد كار – ما هوالتاريخ ؟
انني لا اريد ان يكون تاريخا أناشيد حماسية كما انني لا اريده ان يكون معاول تنهال على كياننا لتحطمه، وسموما قاتلة تنخر مقوماتنا الاجتماعية العريقة، انما الذي أريده هوان يكون انطلاقنا ابتداءا من أنفسنا، وان يكتب تاريخنا بيد شبابنا وبروح مغربية صرفة.
وبذلك وحده سنحس عندما نقرأ تاريخا بأنه قريب منا وبأه فعلا سيساعدنا على فهم حاضرنا وبالتالي على التقدم والرقي.

من كتب تاريخنا ؟

ان تاريخنا كتب انطلاقا من وجهتي نظر مختلفتين ومتناقضتين وكلتاهما أجنبية عنا :
أولا : وجهة نظر أوربية، وهذه فرضتها طبيعة احتكاكنا بالأوربيين وخاصة الفرنسيين، طبيعة احتكاك شعب أوربي متقدم نسبيا بشعب افريقي متخلف. غاية الأول هي استغلال البلاد استغلالا كاملا واخضاع كل مقاومة وبكل الوسائل حتى لا تعرقل عملية الاستغلال هذه. وهذه الضرورة دفعته الى البحث عن الوسائل الناجعة لتحقيق ذلك الهدف. فتوصل الى أن السيطرة على وسط طبيعي اوبشري لابد من معرفته معرفة جيدة. لذلك اعد جيش هائل م الاختصاصيين في جميع الميادين وخاصة في التاريخ والاجتماع والدين ... فكانت النتيجة نجاح التجربة ولومن الناحية النظرية فقط ..
ان وجهة نظر كهذه لا ينتظر منها بعد كل ما ذكرنا من نسبية الموضوعية التاريخية – ان تكتب لنا تاريخنا كما تريده طبيعة ظروفنا ومقوماتنا الاجتماعية والثقافية. انه تاريخ موجه له مطلقات معينة ويسعى لتحقيق اهداف محددة.
ثانيا: وجهة نظر شرقية : ان موقع بلادنا الجغرافي جعلها دوما منطقة صراع بين التيارات الشرقية والغربية. فموقعها على البحر المتوسط الذي احتضن أقدم الحضارات البشرية كما ان ارتباطها بافريقية له نتائج هامة على حركة عجلة تاريخها وعلى التركيب الاجتماعي لسكانها ... لذلك لا نستغرب هذا الصراع الحضاري الذي يتجاذب بلادنا عبر التاريخ. بيد أنه ينبغي الان ان يتخذ موقف حاسم تجاه الصراع الذي لم يعد م صالحنا ان نتجنب الخوض فيه، وأن ننظر اليه نظرة من لا يهمه الامر.
ان وجهة النظر الشرقية هي أيضا لها نفس الأهداف وان كانت الوسائل مختلفة، ذلك لان طبيعة اتصالنا بالشرق لا تشبه سابقتها، اذ حمل الينا الشرق دينا جديدا، أصبح بعد مدة دين السكان لذلك اصبح الدفع عنه وعن حامليه غاية مثلى ... فكان هدف الدفاع عن المقومات الجديدة وتثبيتها مطلقا للمؤرخين الشرقيين الذي كتبوا عن تاريخنا، اوالمؤرخين المغاربة الذين تبنوا نفس الهدف، فكان ذلك سببا في ابراز حقائق واهمال أخرى في مدح أشياء والقدح في أخرى اوبكلمة أخرى: كان ذلك توجيها جديدا لتاريخنا.
ومهما يكن فكل من وجهة النظر الأوربية ووجهة النظر الشرقية لها نتائج غير محمودة على تاريخنا الذي تمتد جذوره الى ما قبل مجيء الإسلام والاوربيين، ونح كمجتمع لسنا فروعا بدون جذور، بل ان تفكيرنا وسلوكنا وشخصيتنا وقيمتنا لها ارتباط بماضينا البعيد كما ارتبط بماضينا القريب. واذا انطلقنا من هذا الاعتبار فإن السبيل الحتمي للوصول الى حل سليم للمسألة هوإعادة كتابة تاريخا وتجريده من الأفكار المغرضة والحرب النفيسة التي يواجهنا بها. هذا العمل الضروري ينبغي ان يكون في اسرع وقت، لان الظروف الاجتماعية الحالية والمتميزة بانتشار التعليم ووسائل الاعلام ساعدت على انتشار نتائج تاريخ لم يكن لا دخل في كتابته. وبقيامنا بهذا العل نكون قد اقتدينا بالدول الافريقية الأخرى التي بدأت تعيد النظر في تراثها بصفة عامة وتاريخها بصفة خاصة.
انني لا انكر ا هناك مؤرخي مغاربة خلفوا لنا مؤلفات تاريخية كثيرة. وانما قصدي ان جل هؤلاء م المؤرخين الذين يسجلون الاحداث دون محاولة تفسير مراميها وأسبابها ولا انكر ان هناك محاولات جديدة قام بها شبان مغاربة في هذا الصدد غير ان هذه أيضا لم تظهر تحررها التام من اثر الأساتذة الأجانب الذي تعتبر تفسيراتهم لتاريخنا المرجع الوحيد.
ان مسؤولية المؤرخين المغاربة الشبان مسؤولية كبيرة لانهم هم وحدهم القادرون على القيام بإعادة كتابة تاريخ وطننا من وجهة نظر ثالثة وهي وجهة النظر القومية التي طالما انتظرها ليتجه اتجاهه الصحيح. 
باريس – صدقي علي أزايكو
مجلة الكلمة عدد 1 فبراير 1971