التراث ومشروع المستقبل

أزايكو التراث ومشورع المستقبل

بقلم: علي صدقي أزيكو
        يبدو أن موضوع التراث يطرح نفسه بإلحاح في الفترات الانتقالية في حياة الشعوب، وهذا شيء طبيعي لأن أي تغيير ينسج بالضرورة علاقات جديدة، تدخل في نقاش قد يتحول الى صراع مع العلاقات السائدة. ولا أعتقد أن هناك شعوبا تم فيها التغيير دون أن تمر بهذه المرحلة.
وإذا كان موضوع التراث قد فرض نفسه في بلادنا. وعلى جميع المستويات، فهذا دليل على أننا نجتاز مرحلة من مراحلنا الانتقالية، ودليل كذلك على أن تراثنا لم يستوعب بعد في شموليته. ولم يتفق بعد على طبيعة العلاقات التي ينبغي أن تكون بينه وبين المرحلة المقبلة المغايرة. فالإتمام به غذن ليس مجرد "موضة". كما انه ليس مسألة مختلفة، وأما تجاوزه فرهين بتجاوز المرحلة الانتقالية التي نحن الآن في خضمها.
هناك من يعتقد أن الثراث يعوق تقدمنا، ويجعلنا سجناء الماضي. انني اعتقد أن هذا الرأي فاسد أساسا، وذلك لسببين: أولهما هو أن التغيير الذي يطمح إليه لا يمكن أن يكون في مجال حياة الشعوب الا تحولا، وفي التحول درجات، منه البعيد المدى، وهذا هو ما يسمى عادة بالتغيير. وقد تضاف اليه في غالب الأحيان صفة "الجدري" رغم أنه ليس كذلك. وثانيهما هو أن عدم فهمهم للثراث، وبالتالي نتيجة لذلك، عدم معرفة كيفية استغلاله واعتماده في عملية التحول، هو الذي جعلهم يعتقدون أن التراث حجر عثرة تحول دون أي ارتقاء.
هذا الإعتقاد الخاطئ هو في نظري، نتيجة لانعدام تعريف دقيق للغز التراث. والذين انتبهوا إلى ضرورة تحديد مدلوله أعطوه مدلولا غامضا عاما، والغريب هو انهمك لا يلتزمون به حين يحللون تفاصيل مكوناته جميعها. فحين يقال مثلا: "تراث كل امة هو ما تبقى من تاريخها، هو محصلة تجاربها المادية والروحية" ثم يقال أيضا: "التراث في الحقيقة هو أنواع فهم المسلمين للقرآن، لأنه بني أساسا على فهم المسلمين للقرآن"، يلاحظ بسهولة الحذف المقصود لمكونات تراثية أخرى تعاملت مع التراث الإسلامي حين وقع الاتصال، ولم تنمحي ماديا.
ليس معنى هذا أنني أعتقد أن تعريف التراث ينبغي أن يكون واحدا يتفق عليه جميع الناس. لان موضوع التراث مرتبط تمام الغرتباط بالسياسة. ولأن المتحدتين عنه غالبا ما يكونون مرتبطين بتيارات سياسية مختلفة أو متناقضة. كما انني أعتقد أن التعامل مع التراث -على عكس ماهو شائع- لا يمكن أن يكون واحدا، لإذا نظر إليه نظرة موضوعية خالية من الخلفيات المستقبلية الذاتية أو الايديولوجية. فالتعامل مع التراث ما كان ولن يكون موحدا في جميع الظروف لان التعامل معه جرد وتقويم له، لا تقديسه على علاته. والتقويم انتقاء واختيار ثم اعتماد واستعمال.
قد يكون سبب هذا التوجه المستقبلي "المقدس"، المرتكز على احدى معطيات تراثنا فقط، والذي لا يكون في هذه الحالة الا طيفا للتراث الحقيقي الراسب المرفوض... قد يكون سبب ذلك كامنا في طبيعة الفترة التي نجتازها. بكل ما يميزها من اضطراب وبلبلة ناتجين عن اللقاء الحضاري بالآخر. والرغبة المندفعة في اللحاق به بل ومواجهته لأن هذا اللقاء مطبوع بطابع العنف بجميع انواعه.
وبما أن هذا الآخر متفوق، فلا بد أن يعيدنا لأنفسنا لنستفهمها. ونرتب أشيائنا كاملة -لابعضها فقط- حتى يكون انطلاقا منتميا. وانتماؤنا كاملا، لأننا ننتمي فعلا. لا مجرد انطلاق عرضي يفقدنا جزءا من الأساس. فنبقى متقطعين عن الوصول،في حالة ما إذا تم الالتحاق.
تبقى مسألة الإنتماء هذه، وهي في نظري حجر الزاوية في قضية التراث هذه. فإذا كان بعض الناس يعتقد أنها بديهية لا تحتاج الى مناقشة توضيحية، فإنني اعتقد أنها هي أول ما ينبغي أن يطرح للمناقشة الموضوعية. فالإجابةّ عن الأسئلة المحرجة، بالنسبة إلى البعض – مثل هذه: من نكون؟ ماهي المعطيات التاريخية التي تميزنا كشعب؟ ماهي المكونات الحاضرة التي تربطنا بماضينا؟ ما قيمة ما يربطنا بماضينا في إطار مشروعنا لبناء حاضرنا ومستقبلنا؟ ماهو المجال الجغرافي والحضاري الأقرب إلينا؟ كيف ينبغي التعامل معه دون أن يلتهمنا...؟ أقول فالغجابة عن هذه الأسئلة واخرى تكملها، فسيكون ذلك لا محالة بداية سليمة لتحديد هذا الإنتماء... وإذ ذاك فقط يمكن أن نزعم أننا شرعنا في فهم التراث. ونطمح الى استعماله محركا دافعا إلى الأمام. وإلا فسيبقى فعله عكسيا في الذين ينتمون اليه انتماءا تاريخيا. ولم يفصلوا عنه بعملية التثقيف والمتاقفة والاستلاب.
يبدو أن الرأي السائد هو أن تراثنا استمد ويستمد من النصوص المكتوبة فقط، لذلك نلاحظ أن كثيرا من المهتمين بموضوع التراث، كثيرا ما يرجعون إلى هذه المصادر لفهم وشرح مسألة التراث كإشكالية الحاضر والمستقبل. وينسون أن اهمية النصوص التراثية -في هذه الحالة- تكمن اولا وقبل كل شيء في مدى تأثيرها على طبائع شعبنا، وسلوكه في الحياة، وتعامله معها. وينسون كذلك أنهم ليسوا مطالبين بالتعامل المباشر مع النصوص المذكورة في الاطار الذي يهمنا الآن، لأن الأجيال السالفة كلفتهم هذه المهمة عبر قرون طويلة.
ان التراث الذي يهمنا سبر أعماقه الآن هو ما تمثله شعبنا في تعامله الواعي ولا واعي مع ماضيه، وحوله الى سلوك وانماط في التفكير تتجاوز مضامينه الظرفية المتوالية عبر التاريخ بإخضاعه لضرورات حياته الحاضرة. هذا التمثل، الذي هو في حد ذاته فهم للتراث وتصرف فيه، هو الذي يزيل عنه صفة الجمود، ويعطيه حيوية الحياة المتجددة. ومهمة المهتمين بالتراث تصبح اذن غير التي يخوضون فيها الى حد الآن. أي محاولة استنطاق النصوص المختارة، واستجدانها للإجابة عن أسئلتهم المجردة. بل تكمن في تأمل مجتمعهم لاستخراج التوابت التراثية فيه، وترتيبها ثم اعتماد ماهو ايجابي فيها. وخليف بتحقيق مشروع جديد للمستقبل. وإذا كنا مقتنعين بأن هذه هي الطريقة الفعالة الوحيدة للتعرف على التراث واستعماله. فإنها لا تقبل التصرف في المعطيات التي يفرضها الواقع المعاش. سواء كان هذا التصرف انتقاءا أو تهميشا. بعبارة أخرى لا يمكن أن نخضع المعطيات الأساسية للتراث لعملية فكرية فوقية مسبقة. يقصد بها محو بعض هذه المعطيات والابقاء على بعضها الآخر. ارضاء أو تحقيقا لاختيارات نظرية، املتها معطيات اخرى تكون ذاتية في غالب الأحيان، أريد أن أقول ان التصرف والانتقاء يكونان انطلاقا من المعطيات الموضوعية بعد اتباتها. لا قبل ذلك. ولا بعد اثبات بعضها فقط. وان المجهود ينصب في التحليل الهادف للمعطيات كلها. ليكون الإستمرار بين الأصل والفرع ممكنا. وهذا الاستمرار هو الذي يضمن أصالة الاختيارات المقبلة وبالتالي يحافظ على عبقرية الأمة التي شحدتها قرون من التجارب المتراكمة. وكانت دوما تمكنها من معالجة مشاكلها الخاصة بذكائها الخاص.
ان تراثنا الحالي هو مزيج تاريخي حي لمعطيات تراثية أمازيغية واسلامية-عربية. وعدم اعتبار واحد من هذه الأصول -على المستوى النظري والعملي على السواء. لا يمكن أن يؤدي إلى فهم جيد وسليم لهذا التراث وكل فهم غير سليم في هذا المجال لا يمكن أن يوظف التراث توظيفا فعالا في تحقيق مشروع المستقبل بل سيؤدي إلى العجز الذي لن يتجاوز إلا بفعل العمل التاريخي البطيء، أو إلى فهم ما نجح التاريخ في جمعه ومزجه.
فكل انتقاء تعسفي في مجال التراث تمليه الاهتمامات الفكرية المجردة فقط. لا يمكن أن يكون الا مجرد بناء نظري جذاب، يموت بموت "موضة" النظرية البراقة. لابد إذن من الرجوع إلى الواقع، ومنه وحده يستلهم البناء الفكري لكل نظرية حول التراث، وتستخرج البنى الثابتة لتنشيط ما تحمله من بذور التحول الأصيل.

علي صدقي أزيكو، نشر في "البلاغ المغربي"، 25 دجنبر 1982.
 ملاحظة من إضافة المجلة: 
 علي صدقي أزيكو أستاذ مساعد في كلية الآداب بالرباط يتهم بالتاريخ الإجتماعي للمغرب، يوجد حاليا رهن الإعتقال بعد أن حكمت عليه المحكمة الإبتدائية بالرباط بالسجن النافدة لمدة سنة، التهمة مقال كتبه في مجلة "أمزيغ" حول الثقافة الأمازيغية إعتبرت المحكمة بعض فقراته خرقا للدستور، وقد.. سبق للبلاغ المغربي أن أعلنت موقفها الواضح من قضية اعتقال علي صدقي وطالبت بمراجعة الحكم الصادر في حقه، لأنه في نظرنا إعتمد على تفسيرات خاطئة للمقال من جهة، وأيضا لأن ظروف اعتقال علي صدقي ارتبطت بقضية اعتقال مجموعة مجلة أمزيغ التي قلنا عنها في حينها أنها ليست سوى عملية تصفية حسابات بين أطراف حكومية دهب ضحيتها كاتب المقال، وحول موضوع التراث كتب إلينا صدقي مقالا ننشره كاملا.