من مشاكل البحث التاريخي في المغرب

من مشاكل البحث التاريخي في المغرب

بقلم: علي صدقي أزيكو
"بما أن تاريخ المغرب هو تاريخ بواديه نفسه، فإننا لا نرى أنه قد قد أغرى المؤرخين العرب. من يدري إذا كان سيغري غيرهم؟ ذلك لأنه يعاني من فقر كبير في الوثائق" 
- جورج مارسي Les Arabes en Berbérie
أتيت بهذه الفقرة لأنها، في اعتقادي تلخص لنا مشكلا من المشاكل الأساسية التي يعاني منها تاريخ المغرب، ونعاني منها نحن المغاربة كأمة تبحث لها عن الطريق الذي سيؤذي بها الى بناء مستقبل أفضل؛ وكشف يعتبر نتيجة العمليات المعقدة القريبة والبعيدة التي مر بها والتي تجمعها كلمة تطور أو كلمة تاريخ.
إذ حاولنا أن نجزئ هذه الفقرة فستكون كالآني:
  • تاريخ المغرب هو تاريخ بواديه
  • كل ما كتبه العرب في هذا الميدان لم يهتم بالبادية
  • شك في امكانية اهتمام غير العرب بها
  • السبب: قلة الوثائق
سنحاول الآن أن نتعرف على قيمة كل فكرة من هذه الأفكار، ومدى صحة كل منها وانطباقها على وافعنا التاريخي.

تاريخ المغرب هو تاريخ بواديه: 

سأقتصر، فيما آتي به من الأمثلة، على المغرب الإسلامي، لأن تاريخ المغرب الما قبل الإسلامي لا نكاد نجد له صدى عند المغاربة، وذلك لأسباب لا مجال لذكرها الآن.
من المعلوم أن الحياة الحضرية، بالمعنى المعروف لدينا الآن لم تكن ذات قيمة كبيرة في المغرب قبيل الإسلام. ومعنى هذا أن المقاومة التي واجه بها سكان شمال افريقية عموما العرب كانت من طرف سكان البوادب أي الفلاحين... ماذا عن البنية الإجتماعية لهؤلاء الفلاحين، وعن الدوافع التي دفعتهم إلى مقاومة العرب تلك المقاومة العنيفة؟ أقل ما يمكن أن نتساءل عنه، ومع ذلك فلا جواب.
لنأخذ الأمثلة الأكثر شهرة: المرابطون الذين أقلت بهم إلينا بادية الجنوب ليخضعوا باقي المغرب والأندلس... ماذا نعرف عن أسباب هذه القفزة الكبيرة من غمرة النسيان إلى مسرح التاريخ؟ لا أكثر من النادر الغير المؤكد.
الموحدون الذين ترعرعوا في قلب الأطلس الكبير، ليكونوا بعد ذلك أكبر أمبراطورية مغربية عرفتها شمال افريقية... ماهي الظروف الإجتماعية والإقتصادية التي خلقتهم، وكيف تغلبوا على التي عاكستهم..؟ ماهو معروف الآن غير كاف ليد الفراغ الكبير الذي نحس به حين نريد أن أن نتعرف على الحقائق الأساسية التي لا يتم بدونها بناء تاريخي حقيقي.
يمكن أن نقول نفس الشيء عن المرينيين والسعديين والدلائيين والسملاليين والعلويين.. كل الحركات التاريخية الكبيرة في المغرب اذن، أصلها من هذه البوادي التي لا نعرف عنها ما يكفي ليلقي عليها أضواء تلحقها بالجزء المضاء نسبيا من تاريخنا.
نشأة غامضة يعقدها اهتمام مؤرخي الأحداث بالرسمي منها فقط كما تريده الأسرة الحاكمة، وغض النظر عن مكل ما سواه. وهكذا يسدل الستار باستمرار حتى على المناطق التي رأت فيها هذه الدول النور لأول مرة.
من الملاحظ أن هذه البوادي، رغم تجاهل المصار لها، كانت تفرض دوما نفسها كلما سمحت لها الظروف بذلك. حصوصا ابان الأزمكات التي تتلو غالبا كل ضعف في السلطة المركزية. هذا الظعف الذي يسبب أحيانا تمرد البوادي المستمر. في مثل هذه الحالة نجد في المصادر اشارات الى هؤلاء الفلاحين الذين يعتبرهم كثير من المؤرخين الحضريين أجانب مخربين. وبالتالي فهم يقتصرون فيما يخبروننا به عنهم على معلومات هزيلة تشوهها النظرة الطبقية التي كونوها عنهم مسبقا.
وإذا علمنا أن جل المصادر التي نعتم عليها الآن في دراسة هذا الجظء من تاريخنا، أن الاثنى عشر قرنا الأخيرة، كتب أغلبها الحضرييون، أدركنا مدى عمق الفراغ الذي يفصلنا عن معرفة صحيحة لتاريخ هذه البوادي.

كل ما كتبه العرب في هذا الميدان لم يهتم بالبوادي.

إذا كان السبب هو عدم إدراك هؤلاء المؤرخين لأهمية هذه البوادي في الديناميكية التاريخية، فهم معذورون وهذا ممكن إلى حد ما. لأن الاهتمام بالتاريخ الإجتماعي، بصفة عامة، شيء حديث نسبيا حتى في الدول الأوربية. ومع ذلك فهذا العذر في حالة كهذه، يصعب قبوله بدون شيء من التحفظ. أما إذا كان الأمر يتعلق بالمفهوم العام للتاريخ عند هؤلاء كعرب ومسلمين. فالمشكل له أبعاد اخرى لا مجال للخوض فيها الآن. [1]
إذا كنت لا أريد أن أقبل هكذا ما قاله جورج مارسي في هذا النطاق بصفة مطلقة، لأنني أعرف أن هناك كتبا يمكن استثناؤها. إلا ان هذه المستثنيلات نفسها لا يمكن اعتبارها نتيجة اهتمام خاص بالبادية، وبذلك فهي -رغم قيمتها- لا تكفي لدحض الفكرة أساسا.
تلك اذن هي الوضعية الحالية عموما. وإذا اعتبرنا ما أشرت اليه سابقا من كون المصادر التي نعرفها الآن من وضع الحضريين، فإن هذا النوع من المصادر لا يمكن اعتباره بغض النظر عن الوضعية الإجتماعية لكاتبيها الذين هم من وسط حضاري محدد، ومن طبقة معينة ولو بالإنتماء أو التبني... هذه الفروق تزداد تفاقما اذا تذكرنا الطلاق الثقافي، وخصوصا اللغوي، بين مدننا وبوادينا. منذ نهاية القرن السابع الملادي على الأقل.
هذا الطلاق الثقافي الموجود بين سكان البوادي والطبقات الحاكمة والموجهة في المدن له أهمية كبيرة في نظري. ويعتبر -في رأيي- من المحركات الأساسية لتاريخ المغرب. اذا اعتبرنا أنه من العوائق الأساسية التي تحول دون تفاهم وتمازج مجتمع المدن ومجتمع البوادي بصة سريعة وفعالة.
والغريب هو أن هذا الجانب لم يجذب نظر الذين اهتموا بتاريخ المغرب حتى المغاربة الشبان منهم. نعم، حاول السيد العروي، في كتابه الأخير "تاريخ المغرب"، (الكبير)، أن يتامل تاريخ المغرب بعين مغربي. ولاحظ فعلا هذا التنافر الموجود بين المدن والبوادي، وتحدث عن وجود نظامين اقتصاديين بل مجتمعين وسلطتين سياسيتين. هذه كلها تتجاهل فيما بينهما وغالبا ما تتطاحن. وأكد أن تاريخ المغرب لا يمكن فهمه -ابتداءا من القرن الثالث عشر- الا انطلاقا من الصراع بين الدولة أو المخزن والمجتمع. (صفحة 236).
أما كونه تحدث عن نظامين اقتصاديين مختلفين، فلست أدري إلى اي حد نستطيع أن نقتنع بذلك خصوصا إذا كان يقصد مجتمع المدن بصفة عامة، وفي القرن الثالث عشر وحتى القرنين التاليين، إذ نجد النشاط الزراعي لا يزال يلعب دورا مهما، ان لم نقل أساسيا في الحياة الحضرية، دون استثناء الطبقات الغنية من الذين ينتمون إليها. وقد أشار العروي في نفس الصفحة إلى ان التجارة والقرصنة، فس المدن، من احتكار الأجانب. وهذه ترجمة ما قال: "اذا غضضنا النظر عن المدن الآهلة بالاجانب الذين يعيشون على القرصنة والتجارة، والتي تحضى وحدها باهتمام مؤرخي الأحداث (Les chronigueurs)  وعن المناطق الجبلية المنطوية على نفسها بصفة مستمرة تقريبا، والتي لا تزال الحياة في معظمها -بالنسبة الينا- سرا من الأسرار، إذا غضضنا النظر عن كل ذلك فإن العمل التاريخي، يقتصر على صراع دائم بين الجيش (جيش المخزن) والسلطات المحلية".
وهكذا نرى أن هذا التنافر يلاحظ على جميع المستويات. ولكن الشيء الذي يصعب البت فيه الآن هو كشف الأسباب العميقة لهذه الوضعية التي لا تخلو من جوانب لها أهميتها.

هل سيهتم غير العرب بتاريخ البادية المغربية؟

حينما وضع "جورج مارسي" هذا السؤال، كان المقصود منه هو حث، أو على الأقل الفات نظر المؤرخين الأجانب والمهتمين بتاريخ المغرب، إلى هذا الجانب المجهول -تقريبا، من حياتنا. لا أريد هنا أن أضع موضع اتهام حسن نية الكاتب، الا أنني أفضل أنا، كمغربي، يتحفظ من تاريخ كتب الأجانب في ظروف خاصة، أن أضع السؤال على هذا الشكل: هل سيهتم المغاربة بكتابة تاريخ بواديهم؟
قبل أن أتحدث عن السؤال الثاني ينبغي أن أشير إلى أن الباحثين الأوربيين قاموا بأعمال لها قيمتها في هذا الميدان. أقول هذا وأنا أفكر، بصفة خاصة، في الؤلفات الآتية: كتاب روبير مونتاني (R Montagne) "البربر والمخزن" (les Berbères et le Makhzen) الذي أصبح الآن مصدرا لا غنى عنه لمن يريد معرفة البنية الإجتماعية والسياسية والإقتصادية للأطلس الكبير الغربي على الخصوص. هذه المنطقة التي نسي العديد من الناس الدور الهام الذي لعبته في تاريخ المغرب. ثم كتاب جاك بيرك J Berque "البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير" (Structures sociales du haut-Atlas) والذي تناول فيه بالدرس، على الخصوص، قبيلة ايسكساوان. وهو الوحيد من نوعه في هذا المجال، والجدير بالذكر أنه نشر منذ أكثر من خمسة عشر عاما. وهو نتيجة سنوات طويلة من البحث والتأمل في عين المكان. ورغم ذلك فالأستاذ بيرك نفسه ادرك الآن أن كتابه في حاجة من ينقده. وقد سبق لبيرك أن نشر كتابا آخر يحمل عنونا "دراسات في التاريخ البدوي المغربي" (Etudes d’histoire rurale magheribine) خصه لمنطقة الغرب.
هناك أيضا عدد كبير من المقالات كتبها الأستاذان المذكوران أعلاه وغيرهما، نشرت في مختلف المجلات العلمية المتخصصة.
وأخيرا أشرا الى كتابين مهمين صدرا أخيرا. أولهما ل (E Gellner) أوليا الأطلس (Saint of the Atlas) وهو محاولة جديدة في تحليل البينية الإجتماعية لسكان الاطلس الكبير الأوسط. وبذلك يمكن اعتباره أول نقد جدي لما اتى به "روبير مونتاني" من نظريات قبل ذلك وثانيهما لـ: (Daniel Noin) "سكان البوادي المغربية" (La population rurale du Maroc) ورغم ان هذا الاخير له صبغة جغرافية أكثر منها تاريخية فانه يعتبر بحثا هاما سيفيد المؤرخ الى حد كبير.
تلك أمثلة لا حصر لها ينبغي الاستفادة منها خصوصا اذا كان صاحبها معروفا بأهدافه العلمية المحضة، ثم أن نقدها شيء ممكن دائما.
أما عن السؤال الثاني فأقول منذ البداية، أن الأمل كبير. لأنني أعلم ان مجموعة كبيرة من المؤرخين الشبان أدركوا، فعلا، ضرورة اتخاذ هذا الإتجاه. هذا الشعور نجده عميقا عند جل أساتذة التاريخ في كلية الآداب بالرباط، وهذه، طبعا، بادية حسنة ومشجعة. الا أن هذا العمل ليس بالهين السهل نظرا لعوامل كثيرة، أهمها: ضعف الامكانيات المادية. والفردية في العمل وقلة الوثائق وخصوصا صعوبة استشارة الموجود منها في خزاناتنا العمومية والخاصة. وأخيرا عدم نمو المواد المساعدة وخاصة علم الإجتماع والإحصاء والادب الشعبي الغني بكثير من الاشارات التاريخية والسوسيولوجية.

قلة الوثائق:

أما عن قلة الوثائق، فلست أدري إلى أي حد يمكن الآن أن نتخذها عذرا نستر به نقصنا في هذا الميدان. خصوصا اذا علمنا أت "جورج ماسي" زعم ذلك قبل أكثر من نصف قرن. وإذا كان "روبير مونتاني"  قد أكد نفس الشيء في مقدمة كتابه "البربر والمخزن" والمنشور سنة 1930 حيث قال: "ان المصادر التاريخية الحقيقية نادرة في هذه البلاد" فإن الامر ليس كلذ الآن. ويكفي أن نقارن بين ما كتبه "جرمان عياش" في هذا الموضوع وبين مزاعم ما قبل الاستقلال عموما. لنتأكد أننا نتوفر على ذخائر وثائقية هامة. تجمع أمهما في خزانة القصر الملكي والخزانة العامة بالرباط. غير أنه يوجد فرق كبير بين أن تكون عندنا وثائث تنخرها الارضة، وبين ان توضع في متناول الباحثين وتسهيل الوصول اليها.
إلا أن هذه الوثائق المحفوظة يبدوا أن جلها يعد من النوع الذي يحمل اسم "وثائق الدولة" أي أنها عبارة عن ظهائر ورسائل رسمية بين السلطة المركزية والسلطات المحلية. وهذا النوع في نظري، رغم أهميته، لا يكفي ليعطي نظرة شاملة حقيقية عن الوضعية الإجتماعية في المغرب حتى في العهود التي تعتبر أغنى من غيرها من حيث كمية الوثائق المتوفرة عنها. وبتعبير آخر، هذه الوثائق تعكس وجهة النظر الرسمية، وبالتالي فهي تنطوي على نقائص هذه الخاصية. خصوصا إذا تذكرنا ذلك الصراع الدائم الموجود بين المخزن وهذه البوادي التي نبحث عن معرفتها معرفة صحيحة.
كيف نستطيع أن نعيد بناء تاريخ بوادينا في ظروف صعبة كالتي ذكرناها؟
إجابة عن هذا السؤال، أقترح ما يلي:
  1. تأمل وتتبع هذه البوادي بصفة منهجية مع ابعاد فكرة التخصص بين المواد المختلفة ولو كانت متناقضة. اذ التقاء وتعاون رجل الفقه والأديب والمؤرخ والجغرافي والاختصاصي في الثقافة الشعبية وآخرين غيرعن، شيء لا محيد عنه في مثل هذه الظروف. هذه الفكرة أوردها الاستاذ "جايك بيرك" في مقدمة كتابه "دراسات في التاريخ البدوي المغربي".
  2. اعتبارا لهذه الضرورة الملحة، نجد أن مهمة المؤرخ الباحث تتعقد أكثر، وأن العمل الفردي وحده لا يكفي لسد الفراغ. تكوين مجموعات عديدة من الباحثين. لا في ميدان التاريخ وحده بل في المجالات الأخرى.
  3. نشر المخطوكات الموجودة بعد تحقيقها.
  4. تغيير البنية الحالية لـ "مركز البحث العلمي" وتأسيس مطبعة فعالة تابعة له حتى يتأتى الخروج من الركود الحالي.
  5. ترتيب الوثائق المخزنية، وتسهيل الوصول إليها. وهذا العمل ليس بالسهل الهين، لذلك ينبغي أن يكلف به أناس لهم اختصاص ودربة وتقنية حديثة.
  6. جمع التراث الشعبي بكل أنواعه. وهذا لا يتأثى، في نظري، الا بعد تأسيس معهد أعلى للثقافة الشعبية ستكون له، لا محالة، أهمية كبيرة.
  7. تنمية الدراسات السوسيولوجية واعطائها الأهمية التي تليق بمادة تعتبر الآن ضرورية لبناء مجتمع حديث على أسس صحيحة واقعية.
  8. تأسيس شعبة للتاريخ الإجتماعي في كلية الآداب حتى نتخلص قليلا من الهيمنة التقليدية لتاريخ الأحداث.
  9. توسيع نطاق "معهد التاريخ" الذي انشئ أخيرا في كلية الآداب بالرباط وتزويده بضروريات البحث العلمي.
لا أزعم أن ما اقترحته كاف ليد الفراغ، ولكنني أعتقد أن هذه المساهمة لا تخلو من فائدة. كما أنني أؤمن أنه ما دام تاريخ بوادينا لم يكتب، فلن يكون بإمكاننا أن نتحدث عن شيء يسمى تاريخ المغرب بالمعنى الشامل للكلمة. و ما دمنا لا نعرف تاريخنا كوحدة كاملة فلا يمكن أن ندعي أننا، فعلا، شرعنا في طريق لنمو الحقيقي. وإذا كنا في حاجة الى نمو اقتصادي، فإننا في حاجة إلى معرفة هذا المجتمع الذي نريد أن ننميه، وأرى من المفيد المثمر أن ترتكز كل خطوة في طريق النمو الإقتصادي على أخرى سابقة تلقي أضواء كاشفة على الوسط الانساني الذي من أجله ينشأ المعمل وتشق الطرقات وتبنى السدود... إذا كان الأمر كذلك فنحن في حاجة الى علماء في الدراسات الاجتماعية بنفس الإلحاح الذي يشعرنا بالحاجة بالحاجة الماسة الى المهندسين والتقنيين وغيرهم.

باريس – علي أزيكو
[1] – أنظر Les grandes doctorines de l’histoir لـ: Albanc g. Widgery 

"التاريخ يعطينا الجواب"
- (وليام جيمسي)
مجلة الكلمة | عدد 2 يولويوز 1971